إيهاب الرفاعي (الظفرة)

عرفت الإمارات التسامح والتعايش مع الآخر منذ قديم الزمان.. حقيقة واقعة تثبتها الاكتشافات الأثرية في منطقة الظفرة التي احتضنت أقدم دير وكنيسة في المنطقة، حيث يعود تاريخهما إلى ما بين القرنين السابع والثامن الميلاديين.
وفي توجه يؤكد أن التسامح سجية في نفسه الكريمة، خص المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، هذا الموقع الأثري باهتمام كبير، ووجه بتوفير كل الإمكانات للوقوف على تاريخه، وإعداده ليصبح مزاراً تاريخياً وسياحياً، ويعتبر ذلك مؤشرا إلى حرص الأب المؤسس على ترسيخ قيم التسامح والتعايش في نفوس الجميع.
وجاء اكتشاف موقع دير وكنيسة صير بني ياس خلال عمليات المسح الأثري في أبوظبي عام 1992، حيث عثر فريق التنقيب على عدد كبير من المواقع في جزيرة صير بني ياس تعود لفترات زمنية مختلفة، ويتضمن الموقع مبنىً مكوناً من ثلاثة أطراف متوازية، وُجدت فيه صلبان جصية وقطع أخرى أشارت إلى كونه كنيسة وديراً يعود إلى ما بين القرنين السابع والثامن بعد الميلاد، وهو الموقع الوحيد المكتشف والذي يعود للفترة المسيحية المبكرة في دولة الإمارات العربية المتحدة.
ووفقاً لعلماء الآثار يُعتقد أن الدير بني في نهاية القرن السادس الميلادي، وتم هجره حوالي عام 750 ميلادية، ويقع الدير في الجانب الشرقي من جزيرة صير بني ياس، وتتجه بوابته الرئيسية نحو الشرق بالقرب من خور صغير على الشاطئ الذي يبعد بضع مئات من الأمتار.
وكان سكان هذه «الرهبانية» ينتمون إلى كنيسة الشرق، حيث كان لهم دور فاعل في حركة التجارة البحرية الممتدة من أقصى شمال الخليج إلى الهند، كما أسهموا في تجارة اللؤلؤ التاريخية في منطقة الخليج العربي.

الخور الجنوبي
وكان الرهبان من أتباع المعلم نسطور (نسطوريوس)، رئيس أساقفة القسطنطينية (إسطنبول حالياً) في النصف الأول من القرن الخامس، والذي كان على خلاف مع بابا روما حول مسائل عقائدية حيث كانوا على الأرجح خليطاً من السكان المحليين، ومن شعوب بلاد الرافدين وغيرها من المناطق، وكانوا يتكلمون السريانية والعربية وربما غيرهما من لغات المنطقة، ويعتقد أنهم بدأوا بناء الكنيسة نحو عام 600 ميلادي.
ولفت علماء الآثار إلى أن الكنيسة تقع ومجموعة من المواقع المرتبطة بها قبالة الخور أو الخليج المعروف باسم الخور الجنوبي، الذي يشكل ميناءً ضحلاً وطبيعياً على الجانب الشرقي من جزيرة صير بني ياس، وينقسم مبناها إلى ثلاثة أجزاء كبقية الكنائس المكتشفة في الخليج العربي، منها الصحن المركزي، ويعتبر المكان الذي كان يجتمع فيه الرهبان أثناء القداس والصحن والمذبح في الجانب الشرقي للكنيسة، حيث كان الكاهن يقود القداس، وكان الناس يشتركون في القداس من داخل بيت الصلاة، ومن المحتمل أن البرج الموجود في زاوية المبنى كان يُستخدم لنداء المصلين إلى الكنيسة.
كما زُينت الكنيسة بكثافة بالأعمال الجصية، وهي تجمع ما بين الصلبان والتصاميم الكلاسيكية الجديدة، وقد زينت بعض هذه اللوحات الجزء الخارجي من الطرف الشرقي للكنيسة، ومن خلال التنقيبات تم الكشف عن ستة أفنية للمنازل وبئر للمياه رُبما تكون ملحقات تابعة للكنيسة.

إعادة افتتاح الموقع للزوار
ومن خلال اللقى الأثرية المُكتشفة في الكنيسة يمكن القول إن السكان اعتمدوا بشكلٍ أساسيٍ على البحر في غذائهم، حيث كانوا يصطادون الأسماك وأبقار البحر والدلافين والسلاحف. بالإضافة إلى تربية الأغنام والماعز للحصول على الحليب، وتفاعلت الجماعة المسيحية مع العالم المحيط حولها، حيث تدل الأواني الفخارية والزجاجية، وخاصةً الثمين والمستورد منها على التجارة عبر الخليج العربي، وصولاً إلى الهند. وقد كانت هذه التجارة مهمةً اقتصادياً أو سمحت بالاتصال بين المجتمع المسيحي الأوسع من جماعة الجزيرة.
ولأهمية الموقع الاستثنائي في المنطقة، تم تنفيذ العديد من أعمال الترميم للحفاظ على الموقع ومحيطه، بما يضمن حمايته من عوامل التدهور ولجعله مهيأً للزوار، ومن الاعمال التي شهد الموقع تنفيذها بناء مظلة حماية وممرات، وإدارة تصريف المياه، ووضع وسائل للرصد والمراقبة، وحالياً يتم العمل على إعادة افتتاح الموقع للزوار وسيتم افتتاحه خلال هذا العام للزوار.